لكشاف
لقد قسمنا تاريخ بادن باول في سيرة حياته هذه إلى قسمين: الجندية والكشاف
هل يا ترى انقسمت حياته حقا إلى مثل هذين القسمين, بحيث انه اعتنق الجندية أولا, سالكا طريقها بخطى الجندي المقدام, لا يلوي على شيء ,حتى إذا بلغ من طريقه نقطة تحول, طلق الجندية فجأة موليا لها الأدبار, واخذ يسلك سبيلا أخر, سبيل الكشفية؟ فبدأ جديا وانتهى كشاف ,كمن خلع ثوبا وارتدى غريه ؟
هل هناك من فاصل بين القسمين يبلغ مبلغ الهوة عمقا يباعد فيها بين الضفتين, حتى لينقطع من الواحدة إلى الأخرى كل سبيل؟
هل هناك ثورة على الماضي, وانقلاب بالمعنى الذي يعرف كما حدث للكثيرين غيره, وكما حدث مثلا لشارل دو فوكو,الذي انقلب من جندي ورائد إلى ناسك في الصحراء متعبد , في تحول تام أنكر فيه كل ماضيه وطوى صفحته إلى الأبد؟
كلا, إن بادن باول جندي ..
الحالتين ,انه جندي وكشاف ,معا ودائما لقد كانت حياته فريدة في سياقها ,في تماسك أجزائها ,في وحدتها.
ليس هناك من طفرات, وانقلابات ,وثورات, وتحولات, لقد سارت حياته سيرها الطبيعي, ترفعه الدرجة منها إلى ما فوقها من درجات السلم, في صعود أمين مطرد, في تطور صحيح سليم
هي الجندية أعدته للكشفية , وقادت خطاه إليها, وارتقت به في مراقيها, فاخذ من الجندية روحها الخالدة ونفخها في الكشفية نفخة صحة وحياة
أتت الكشفية إذا استكمالا للجندية , وتوسيعا في معناها, واستغلالا لصفاتها, وارتقاء بأساليبها, على نطاق شمل الكبير والصغير والشاب والطفل والفتى والفتاة
ولاشك أن القارئ قد فهم الفصول السابقة على هذا بمعنى, وعلى هذه الصورة فلقد كانت حياته فيها أسيرا إلى الأمام, وارتقاء إلى الأعالي وتمهيدا لفتح لرائع, فتح الكشفية العالمية
إنها سلسلة متصلة الحلقات قادته أخيرا إلى الكشفية كما يعرفها اليوم ونشهدها
لم تكن الكشفية لتنتشر هذا الانتشار ,وبهذه السرعة, لو لم تلقى هوى في نفس بادن باول وهوى في نفوس الأحداث, فلقد كان بادن باول يعرف الشبيبة, ويفهمها ويحبها وقد وجد السبيل إلى نفسها كما كانت الشبيبة تعرفه, وتحبه وقد وجد السبيل هي أيضا إلى قلبه فكان الحب بينه وبينها متبادل, والتفاهم تام, والتجارب كامل, وعلى نطاق واسع
جل ما يريده الشباب أن ينظر الكبار إليهم نظرتهم إلى كبير راشد ,لا إلى طفل قاصر فان بادن باول بأساليبه متمما لرغباتهم, متفهما لعقلياتهم, مستثمرا لقواهم , يدربهم بها على حياة الرجال
وفي ذات يوم من عام 1903 دقت الساعة الحاسمة في حياة بادن باول , وفي حياة الكشفية ,إذ دعاه وليم سميث, مؤسس" كتائب الفتيان" ليستعرض فرقها في حفلة عامة
ولنترك الكلام هنا لبادن باول:
" كانوا ثمانية آلاف فتى, يالمنظر هؤلاء الفتيان يسيرون في وحدات متراصة , بخطى ثابتة, ونظام رائع والتفت إلى وليم سميث وقتل له :
كم أود أن أحذو حذوك وأقوم مقامك لدى مثل هؤلاء الفتيان
وأضفت قائلا:
لو تضاعفت الجهود في هذا السبيل وتنوعت الأساليب والتدريبات إذا لتضاعف عددهم عشرات المرات
فأجابني:
هلا صدرت لكتابك " في سبيل الطلائع صبغة خاصة بالفتيان؟"
نعم الفكرة
وأصدرت الصبغة المطلوبة, وتداولتها الأيدي, وتداولتها أيدي "كتائب الفتيان" وغيرهم عدوا بالمئات والألوف ونشأت الحركة قوية جارفة واتسع نطاقها ,وأقمنا للحركة إدارة, وفتحنا لها مكتبا, وسعينا لها بمدريين, ولم تمض سنوات قلائل حتى أقمنا أول " رالي" في كلاسكوف, دعونا إليه وليم سميث
لم يكونوا يومئذ أكثر من عددا من " كتاب الفتيان" كما أنهم لم يكونوا اقل تنظيما ,وأدنى حماسة
وجمعت رؤساء الفصائل لا تحدث إليهم على حدة, ما أجملها شبيبة, والتفت إلي وليم سميث وقد دمعت عيناه تأثرا ,وقال:
دونك مكاني لدى فتيان "الكتائب" هلا قبلت؟
قد قالها صادقا, في عزم واقتناع, انه يعرف الشبيبة حق المعرفة, ويعرف حاجاتها وأدواءها, ويعرف الطرق إليها, ولقد راقه ما قام على يديه من حركة مباركة , وما بلغت إليه الحركة من نجاح ,ولم يغرب عنه ا كلينا نسير إلى هدف واحد من خدمة الشبيبة, وان في سبيل مختلفة إلا انه أبدى من النزاهة والتجرد ومن سعة الصدر, وسماحة خلق ما يجعل الحركتين تسيرين سيرهما وتمشيان جنبا إلى جنب دون احتكاك ونزاع وفي تحاب وتفاهم
كانت فكرة تطبيق أساليب الاستطلاع, التي في الجندية على الكشفية وعلى الشبيبة في الكشفية, لترويضها وتثقيفها وتربيتها فكرة خصبة, اخذ بادن باول يعمل فيها الذهن, ويقلبها في كل وجه,في اجتهاد واسع من تنقيح ولتطوير والتوضيح وتنظيم ولصقل واجلاء , حتى جاءت موافية لشروط سهلة المتناول قريبة التحقيق وافرة الثمار
إليك خطوط الكشفية الرئيسية كما عرضها بادن باول على وليم سميث عام 1906:
الغاية من الكشفية إخراج مواطنين صالحين:
والمواطن الصالح يتصف بروح التضحية ,ويخضع للواجب, ويفكر تفكيرا شخصيا صحيحا يبنيه على الواقع, ويضطلع بالمسؤوليات دون وجل, ويحسن أعماله حتى أصغرها شأنا , وله من دقة الملاحظة وسداد النظرة, وبعد الأفاق ما يؤهله للسيطرة على الظروف والتغلب على الصعاب والخروج من المأزق
أما الوسائل لتنمية هذه الصيفات , والتطبع بهذه الطباع, فعديدة وأكثرها, عملي, تأتي لي مجالات اللعب, والحكايات, والنزهات والرحلات , والاختبارات, والمسابقات, في ميدانها من السهل والجبل والغابة, والنبات والحيوان والإنسان فهي نظرة شاملة تحيط بالكون وما فيه هو الإنسان كله, في ميدان الحياة كلها والبرنامج العملي لذلك أوسع من أن نستوعبه هنا بتفاصيله
فهذه مثلا حكاية يرويها رئيس الكشفية, ينسج خيوطها من حوادث تستهوي الأطفال, وتثير حماستهم يبعثهم بعدها في تمارين عملية في اثر المجرمين الهاربين, يبحثون عنهم, ويتعقبون أثارهم, ويكتشفون أمرهم, أنها ولاشك حكاية خيالية لكنها تستمد على الواقع اليومي فتنمي الملاحظة, وتشغل البال وتبعث التفكير وتفتق الحيلة فيتعرفون على الادلة ويتعلمون تأويلها , ويتفهمون معانيها فلا تفوتهم من تلك
الأدلة والآثار فائتة ,ولا يتركون كبرة أو صغيرة إلا ويعيرونها أهميتها, ويحسبون حسابها
وهذه مثلا بعض التمارين من تلك التي تروض الحواس وتنمي الملاحظة ,وتدعو إلى التفكير
انظر إلى واجهة مخزن مدة دقيقة واحدة, ثم حول نظرك عنها, وعدد ما رايته فيها من معروضات
لاحظ بعض المارة في الطريق, ثم حاول أن تتعرف من مظهرهم إلى ما خفي عنك من مخبرهم, من المهنة, والطباع والأخلاق والسن
تعلم أن تتجه بواسطة الشمس, والقمر, والنجوم, والهواء
ادرس البرية, أو الحديقة, وحاول أن تتعرف على ما انطبع على أرضها من أثار الإنسان والحيوان والعجلات
حاول أن تشعل النار في البرية بعود واحد من الثقاب, أو اثنين رغم الهواء العاصف
تعلم أن تطبخ في البرية, وان تقيس الأبعاد بالنظر, وان تسبح في البحر والنهر, وان تخلص غريقا, وان تضع التقارير, وان تتخذ ما يجب من وسائل الصحة والنظافة
ارسم علم بلادك وتعلم معناه, ادرس تاريخ بلادك, ضع مصلحة الوطن فوق كل مصلحة, والواجب فوق كل هوى ابحث عن خدمة تؤديها ,ونصح تسديه, وعود تمد يدك فيه إلى حد
هذه وغيرها من المواضيع لن يصعب على الرئيس إيجادها, واستنباطها , لاسيما إذا توخى منها ما ينطبق على الزمان والمكان, إلا انه لا يألو جهدا في درس المواضيع الأساسية التي ذكرنا بعضها, والعودة إليها مع الكشافين في كل طرف, وفي كل سانحة, لتنطبع في نفس الكشاف, وتتحول إلى شخصية
هذه الآراء والخواطر,اخذ بادن باول يذيعها في نشرات يصدرها من وقت إلى أخر, حسب الحاجة قال في إحداها:
توضع هذه الطريقة في تربية الشبيبة لتزاحم طرقا غيرها, كما أنها لا تهدف إلى إنشاء منظمة جديدة تتنافس مع ما هو قائم من المنظمات بل لتدخل, روحا جديدة , وأساليب جديدة في صلب كل تجمع للشبيبة من المدارس أو النوادي إلى كتاب الفتيان" إلى غيرها من الجمعيات تنعشها وتجددها وتحييها ..
واخذ بادن باول يبحث له عن معاونين في كل مكان وفي كل الطبقات
وقد بعث صديقه إليه يوما خير معاونيه في هذه الحركة
كان ذلك عام 1907 في بيت ريفي للسيد ارثور بير سون, صاحب دار للطباعة والنشر وهذا ما كتبه السيد ايفرث الناقد الأدبي لداره عما حدث يومئذ قال:
" قام بادن باول بضعة أيام من صيف 1907 ضيفا على بيرسون, في داره الريفية وكان يصرف يومئذ جل اهتمامه في البحث عن معاونين أكفاء يساعدونه على نشر الحركة بين صفوف الشبيبة
وفي ذات يوم, دعا صاحب الدار أصدقاء له إلى حفلة, وبينما كان ضيوفه يلهون فيما بينهم ويتحدثون انسل بيرسون من بينهم خلسة وهم بركوب عجلته للذهاب وإذا ببادن باول يقف أمامه في اللحظة الأخيرة
إلى أين ؟
إلى زيارة مأوى للأولاد من ذوي العاهات اهتم به
وذهبت العجلة, وظل بادن باول واقفا وحده مع أفكاره, وهي تدور في رأسه ضاجة تعمل فيه عملها, وإذا به يخرج من تأملاته بالنتيجة التالية: ياله من رجل انه ليحب الأولاد حبا جما وانه علاوة على ذلك رجل أداة وتنظيم, وصاحب دار للطباعة والنشر ومحرر جريدة انه لرجل الذي اقصد
وتباحث بادن باول مع بيرسون في موضوع الساعة, ودرس معه الوسائل وتم الاتفاق
وقال بيرسون من طرفه ,عن ذلك الاجتماع:
"إنها الصدفة نادت احدنا إلى الأخر, لنساهم معا في عمل جليل كالكشفية واني لأذكر الآن بكل سرور تلك الصدفة التي جاءت بي إلى الحركة في أول عهدها, فكنت أول من وقف على طبع كتاب "الطلائع" وعلى إصدار مجلة "الكشاف"
وأراد بادن باول ,وهو على أبواب خطوة حاسمة في الكشفية ,أن يتوسع في موضوعه, فانكب على دراسة أساليب التربية المتبعة في مختلف بلدان العالم, فاقبس أشياء من بعض طقوس القبائل في أفريقيا, ومن دستور الفرسان في القرون الوسطى , ومن الحركة الرياضية الناشئة في ألمانيا, ومن بعض الدراسات النظرية, مما أغنى به طريقته, وساعده على توسيع نطاقها, وإدخالها إلى شتى نواحي الحياة
إلا انه أفاد من مخيم جزيرة برونسي ما لم يفده من كل ما سواه, فلقد طبق هناك لأول مرة أساليبه مع فرقة من الشبان أتوا من مختلف المنظمات, ومن " كتائب الفتيان" ومن غيرها من الجمعيات الموجودة
قام هذا المخيم ,الذي هم المخيم الاول للكشفية , من 15 حزيران إلى 09 آب من عام 1907 في جزيرة كثيرة الغابات, في موقع أعده رؤساء "الكتائب" وزودوه بما يلزم وقد ساهم فيه أركان الكشفية يومئذ وعلى رأسهم بادن باول
أتت التجربة الأولى ناجحة كل النجاح, وهاك ما كتبه عنها بادن باول يقول:
" قسمنا المخيمين إلى فصائل من خمسة أفراد وتسلم القيادة في كل فصيلة منها أكبرها سنا, تحمل وحده فيها المسؤولية التامة, فكان هذا النظام من أهم أسباب النجاح وكانت الفصيلة, الوحدة المستقلة تخيم وحدها وتعمل وحدها وتنظم شؤونها وحدها, وتدين بالطاعة لرئيسها متقيدة في كل أعمالها ..
على أربابها , ويبعث روح التنافس المجدي بين أعضائها يدعوهم إلى التسابق في مضمار الأعمال
وسارت الأمور على هذا المنوال, يرتقي مستواها من يوم إلى يوم يندرج بها الكشافون في طرق الكشفية ويتمرسون في أساليبها
وكان لكل فصيلة يومها من الخدمة, تقوم فيه بإعداد الطعام, وتتولى تنفيذ الأوامر في الشؤون العامة, وتتكلف مهام الحراسة في الليل والنهار
وفي المساء كنت ترى كل فرد من فصيلة خدمة قد ارتدى رداءه والتحف بأغطيته , وحمل صحنه وكبريته, وذهب إلى المكان المعد للطبخ , يشعل النار بأقل ما يمكن من عود الثقاب, وبعد العشاء بينما كل فصيلة نهيئ مرقدها, يأخذ لحراس مكانهم لحراسة الليل
ولقد دلنا الاختبار على أن أفيد الشروح عن موضوع, اقلها كلاما وأكثرها أمثلة فنجلس حول النار نخوض شتى المواضيع ونثرثر في اقر بها, حتى إذا تم لنا فهم موضوع الساعة, نقوم له في اليوم التالي نجري فيه بعض التطبيقات العملية, في مباراة تشترك فيها الفصائل كلها وقد علمنا الاختبار انه ليس مثل القراءت الطويلة السهلة مجلبة للضجر ومدعاة للفتور
واليك بعض ما تطرق من مواضيع نستهدف إلى تنمية الملاحظة وتقوية الانتباه وهذا مثلا موضوع "الأثر"
اجتمعنا بعد العشاء ودائرة متراصة حول نار , اخذ الرئيس يسرد على المسامع حكاية شيقة, أراد أن يظهر بها ما نجنيه من فائدة من معرفة الأثر ,والتحقق منه وتعقبه
وفي اليوم التالي نجري أمامهم بعض التجارب من أثار للأقدام, لأقدام الإنسان والحيوان نطبعها على الحضيض هنا وهناك, ندربهم على التعرف عليها والتفهم لمدلولها
وبعد الظهر من اليوم ذاته نقوم بلعبة نسميها بلعبة (الغزال الشارد) فنطلق احدهم ..وقد لقبناه بالغزال وقد زودناه في جعبته بست كرات من كرات التنس, فيبتعد عدوا وقفز ولا يلبث أن يغيب عن الأنظار وبعد عشرين دقيقة من انطلاقه, أرسل في إثره أربعة من الكشافين لمطاردته, وقد تزود كل منهم بكرة واحدة, ويبدأ الكر والفر والمطاردة ولنزال وكان الغزال بعد أن سار مسافة كيلومتر وحداو اثنين, يتعرج في طريقه, فيختبئ هنا ويظهر هناك نصب استطرد به الفخاخ, مشوشا عليهم أثاره , مظللا إياهم ما استطاع حتى لم ينفرد بأحدهم رماه بكرة فأراه قتيلا, ولحق به المطاردون, فاحاطوبه وأطلقوا عليه نيرانهم, وقت والمطارد يقتل بإصابة واحدة من الغزال والغزال يقتل بإصابات ثلاث من مطارديه
على هذا الصورة كانت أساليب الكشفية تطبق في المخيم فيصير ولا تنقيهم ثم درسها ثم العمل بها
وكان النظام سائدا والقوانين مراعية بحيث أن محكمة الشرف التي تكونت للنظر في أمر من يخالفها ...........
لأجله, ولاغرو فلقد قطع الكشاف على نفسه عهدا بان يأتي أعماله على أحسن ما يستطيع
وكان اكبر الفصيلة سنا يضطلع بمهام الرئاسة, ويتحمل المسؤولية عن سير فصيلته "
وكان لنار المخيم سحرها على الكشافين وأنهم ليرونها للمرة الأولى وهذا ما كتبه احد من شهد المخيم, عن بادن باول قال:
"إني لا رآه إلى الآن أمام النار تعكس على وجهه أنوارها , وقد انتصب بقامته الدقيقة الناعمة, طيفا من نور, رؤيا من الأساطير, يشع سرورا وحبا بالحياة, يتنقل دون جهد من المرح إلى الجد, يستجيب لكل طلب , ويتجاوب مع كل حالة , يقلد تارة أصوات العصافير, وأخرى صرخات الحيوانات, يعلم تارة كيف تقتفي الآثار ويسرد تارة أخرى نكتة حضرته, أو حكاية قام على الفور بنسجها ثم يرقص ويغني ويدور حول النار ويضع هنا إرشادا في كلمات, وهناك نصيحة في نظرات, يوجه أناء تعليما دقيقا وأنا نقدا لطيفا مما كان يقع على الجميع لحسن وقع حتى ليسيرون وراءه إلى أقاصي الأرض
كان النجاح إذا حليف المخيم في كل أطواره بحيث أن بادن باول خرج منه ارسخ عقيدة بضرورة حركته, واشد عزيمة على متابعة الجهود في سبيلها
ورأي أن أول ما تدعوا الحاجة إليه الآن كتاب يكون بمثابة الدليل والمرشد في مضمار الكشفية فاخذ يعد له العدة بهمته المعهودة, وقدم السيد بيرسون أثناء ذلك مكتبا أقامت الحركة فيه إدارتها المركزية كما تبرع بتكاليفها كلها للسنة الأولى ووعد بإصدار نشرة أسبوعية باسم الكشاف بينما اخذ بادن باول يلقي هنا وهناك المحاضرات يشرح فيها حركته للجمهور
وظهر الكتاب,على مراحل ستة متوالية, في أجزاء ستة, بعنوان " الطلائع" بيع الجزء منها بثمن زهيد, وكان حسب الكتاب من اسم مؤلفه داعيا للانتشار السريع الجارف, فتلقفته أيدي الشبيبة في كل أطراف العالم, بما لم تتلقف به كتابا ,من الحماسة واخذ الأحداث يمارسون تمارينه, ويلعبون ألعابه, ويتجمعون ,من تلقاء أنفسهم فصائل وفرقا, يضعون على راس الواحدة منها احدهم سائلين كل من توسموا فيه الكفاءة بان يقود فرقة منها
وظهر العدد الأول من مجلة "الكشاف" في 14 نيسان 1908 وان ما حدث يوما لأحدهم لدليل على ما قد حدث من أمثاله للكثيرين,قال:
"أراني يوما احد معلمي المدارس كتابا بعنوان "الطلائع" وطلب مني أن اقرأه وان أدلي إليه برأي فيه, فأخذته على كره, وتصفحته تصفحا سريعا, ثم ألقيت به على زاوية من منضدتي, ولم البث أن نسيت مرة إلى أن وقع عليه نظري ذات يوم غائم ممطر فأخذته واعدت قراءته بانتباه ولما ذهبت به إلى صاحبي بادرني بقوله:
أو ق... فصيلة من الطلائع ؟
فأجبته على الفور , وربما دون ترو:
لقد قبلت
قبلت وان لا ادري ما تخبئه لي الأيام, ولا ادري أن الحركة سوف تأخذ مني وقتي وقلبي وأنها سوف تقلب حياتي رأسا على عقب
وقبلت إذا وأنا أتخيل نفسي يومذاك في مرتبة قائد له تحت إمرته مرؤوسون يتخلف إليهم من وقت إلى أخر وربما في كل شهر , يأتيهم والابتسامة على ثغره, فيقول لهذا كلمة تشجيع وتحميس وللأخر كلمة عطف وشفقة ثم يذهب ,وحسبه ما فعل..
هذا ما تخيلته يومئذ
وإذا بي أجد نفسي ذات مساء محرق من شهر أب أمام الحقيقة في غرفة وطئة تحت المطبخ وحولي ثمانية من الأحداث مع رئيسهم يتمرسون في عقدة المبتدئ ..
وكان هذا النشاط صداه البعيد في منظمات الشبيبة وقد انجرفت مع غيرها لتيار الحماسة تتجند للفكرة الجديدة, تجري ما ابتكرت من عشرات وتعتنق ما علمت من مبادئ وقد فام ..باول يومئذ اتصالات عديدة مع رؤسائها يشرح ويوضح ..تطوى عليه ..سوية في التربية من عناصر تقدمية انسجمت فيها كل ما كان صالحا في غيرها من مختلف أساليب التربية
ولقد مر القول بان بادن باول لم يكن يومئذ ليفكر بإنشاء منظمة جديدة, بل بإنعاش ما قام من المنظمات بأسلوب من التربية جديد
وهو لم ينشئ حركته دارة مركزية مستقلة لا عندما دعت الحاجة إليها ,وقد طلبتها المنظمات القائمة ذاتها جمعا للشتات وتنسيقا للجود
إنما هي الفكرة ذاتها أخذت تحيا وتنموا وتتحقق أعمالا وفرقا وشعبا وها هي نشرة الإدارة المركزية قد صدر العدد الأول منها في تموز 1909 وفيه من الأرقام ما يدل على مدى التقدم, وفيه أيضا لائحة طويلة بأسماء المدربين المسؤولين , وقد بلغ عددهم يومئذ الأربعمائة والعشرين
وقد قضى بادن باول عطلته في تلك الصيف في أمريكا, متجولا بين أقطارها ,داعيا في محاضراته العديدة إلى اعتناق فكرة الكشفية بالسير على أساليبها
وأقيم "الرالي" الأول في أيلول 1909 ضم عشرات ألاف كشاف وقد ظهر فيه لأول مرة ظهور رمزيا, فرق من مرشدات قد نشأن نشأة عفوية فاتين إلى "الرالي" يعمل على ضرورة الاهتمام بتنظيم فرق المرشدات ينضممن مثل أخوتهن إلى الحركة
وأخذت لحركة على اثر هذه النشاط الواسع, تسير في طريق مركزية في مقر خاص تنتهي يوم مجلسا أعلى الشورى وتنتمي إليها لجانا إقليمية موزعة في كل إنكلترا, وفي أقطار عديدة من العالم
أنها لخطوة حاسمة خظتها الحركة في سبيل التنظيم الأخير
إلا أن بادن باول قد بلغ هنا إلى مفترق طرق عليه أن يختار أحداها فيضحي في ما سواها ليسلكها وحدها إلى النهاية
الطلائع
انه ليستهوي الفتيان, هذا الكتاب الشائق ولقد استقبلوه استقبالهم لضالتهم المنشودة, فشغفوا به أيما شغف , وتحمسوا له أيما تحمس, وراحوا يردون موارده, ويسلكون طرقه, ويمعنون فيه نهبا واقتباسا, لا يولون على شيء فلا مطولات علمية أو فلسفية يضيق الأولاد بها صدرا فيتجاوزونها ولا شروح نظرية مسهبة تجعل منه سفرا مدرسيا سئم الأولاد أمثاله, انه كتاب منهم واليهم
انه كتاب منهم لأنه حياتهم ذاتها يحيونها في بصيرة ووعي , على مرأى منهم ومسمع , في ميادين اللعب والجد, والفكر والعمل, إنهم هم ذاتهم أطفال هذه اللعبة , وأبطال تلك الحكاية وفرسان ذلك القتال, وكل شيء فه لهم جديد وقديم معا: جديد جدة الحاضر وقديمه قدم الإنسان فكأنهم مع جديده في ألفة سنين وكأنهم مع أشخاصه في عشرة أعوام وكان عهدهم بجديدة قديم إذ يتعرفون إليه في أعماق كيانهم
وانه كتاب إليهم لأنه يسد فيهم حاجة حيوية, تشع له جوعا ويروي لهم عطشا, جوعا وعطشا إلى المنظور والملموس إلى الخيال والشعور إلى الجميل والرائع, إلى كل ما في الحياة من أشكال ومظاهر وصور فهو يتكلم إلى الولد عن كل شيء بلغته هي لغة الولد, فيتكلم إلى عقله يفتحه بما يطرقه به من أفكار خصبة وخواطر منيرة, ويتكلم إلى قلبه يحرك ساكنة ويثير أهواءه ويبعث رغباته لكي يشبعها من كل ما هو إنساني ويتكلم إلى حواسه يغذيها أشغالا, وألعاب وصورا , ومتعات, ولذائذ ينميها بها ويغنيها ويتكلم إلى نفسه يستجيب إلى نداء الأعالي الذي يتردد في جوانبها, فيسموا بها إلى أجواء صافية من التضحية ,والمحبة والإخاء يتكلم إليه كله, تلي جسمه ونفسه , إلى عقله وقلبه, إلى طفل اليوم, والى رجل الغد
للكتاب أجزاء ستة, صدر كل جزء ومنها على جدة , في فترات قصيرة من الزمن ثم جمعت كلها في مجلد واحد لم يلبث أن بيع منه الآلاف من النسخات وترجم إلى أهم لغات العالم
يشتمل الجزء الأول على بعض إرشادات عامة للمعسكرات يشرح له فيها ما يقوم به كل من رئيس الفصيلة ,أو رئيس الطليعة ,من دور ثم يورد برامج كاملة لأربع من سهرات نار المخيم, هذه بعض موضيعها :
· يبدأ برنامج السهرة الأولى بحديث عن فتيان مافكنج يمهد به للكلام في الكشفية فيحددها بأنها استعداد وخدمة لخدمة الجماعة وينتهي القصة "كيم" للكاتب كيلنغ
· ويبدأ برنامج السهرة الثانية بقوله " على من يريد من الفتيان أن يكون كشافا, أن ينضم إلى فصيلة من الفصائل التي تألفت في إحدى منظمات الشبيبة, أو أن يبحث له عن رفاق خمسة ينضمون إليه, فيؤلف هو ذاته معهم فصيلة كشفية جديدة, ثم تأتي لعبة "كيم" تجري بعدها تمارين في إشعال النار, فيقول للمدرب ادع الكشافين ليشعل كل منهم ناره, على ما يرى, ثم قم بملاحظاتك, ترشدهم بها إلى الطريقة المثلى لإشعال النار وتنتهي السهرة بقصة فتى توصل بذكائه وحيلته إلى اكتشاف الجريمة
· وفي السهرة الثالثة يشرح مواد بعض الامتحانات ومدلول بعض الشارات
· وفي السهرة الرابعة يدور الكلام على دستور الكشاف يشرحه الشرح الشامل الوافي
وتشتمل الأجزاء الأربعة الأخرى من الكتاب على المواد التالية: الآثار وتعقبها, الإشارات وقراءتها, الزحف,الحيونات ,النبات, الاستكشاف,المخيم, المطبخ, حياة في العراء, لغة المورس والسيمافور, القوة البدنية ,العادات الصحية, الوقاية من الأمراض , الفروسية ,النظام, الشخصية ,التمريض, بانتظار الطبيب, الوطنية
أما الجزء السادس والأخير فيشتمل على مجموعة كبيرة من الألعاب والتمارين والرياضات, تجري كلها في العراء وهناك بعض الإرشادات للمدربين عن الأساليب التي يجب إتباعها في هذه الألعاب والتمارين لكي تسلك طريقها وتأتي بفائدتها
سر الكتاب إذا انه يشوق للأولاد أعمالا هم إليها بطبيعتهم ميالون, كإشعال النار والطبخ في العراء, والكر والفر ,والهرب والمطاردة, والاستكشاف والتحري, وتعقب الآثار, واستنباط الحيل, والألعاب التي تشبه المغامرات, مما يستنفر في المرء القوى الكامنة ويدعو إلى الثقة بالنفس وينمي الشخصية
بذلك ادخل بادن باول أهواء الفتى وأمياله وغرائزه ذاتها, كعناصر أساسية في صلب أسلوب للتربية شامل, فتطهرت فيه, و تسددت, أسامت, وانسجمت مع المبادئ القويمة, فتحولت هكذا من قوى سامحة عمياء إلى أسباب حياة الإنسانية مثلى
..بادن باول من خبير لنفس الطفل إذ يقول:
" إننا نأخذ الولد لتربيته, وهو بعد في سن نصرة, تطير به الحماسة طيرانا إلى كل ما يطلب منه من جميل نبيل فيستمع منا إلى كل قول , ويلبي منا كل نداء فتنمو شخصيته ويبلغ مبلغ الرجولة الكاملة"
يعد بادن باول الفصيلة أفضل ما ابتكر من أسلوبه: أنها حجر الزاوية عليه يقوم البناء وبه يتحقق ما تصبو إليه التربية الحقة من بناء للشخصية وتقوية الشعور بالمسؤولية, ورأيه في ذلك صريح
يقول:" من المربين والمدربين من لم يفهموا بادئ ذي بدء فكرة الفصيلة وما تنطوي عليه نظامها من فوائد إلا أنهم لم يلبثوا أن أدركوا حقيقتها ووقفوا على فوائدها الجمة, ومزيتها الكبرى أنها تجاري طبيعة الولد ,وتساير ميله إلى التكتل والتجمع , فهو ما ينشط للعب, أو لمغامرة, أو للعبث, حتى تراه قد تقسم وتوزع فرقا, وشرذمات ,وعصابات نشأت على حين غرة ,نهض الأقوى بقيادتها, فإذا أحسنت فهم نظام الفصيلة , وألقيت بمقاليد المسؤوليات فيها على رئيسها ,فانك لا تلبث أن تجني ثمارها وافرة ,أما إذا أبقيت في يديك الزمام, وحرصت كل الحرص على القيادة, لا يشاركك فيها من الفصيلة مشارك, فانك لا تلبث أن تبوء بالفشل"
هذه الأقوال وأمثالها عن نظام الكشفية علينا أن نحسن فهمها فإننا إذ نلقي على الفتى مسؤولية فصيلته, إنما نوليه ثقتنا, إلا أننا بذلك لا نتركه وشأنه يسير على هواه, دون دليل ورادع فله من شريعة الكشاف بنوع خاص , أفضل دليل واكبر رادع
ودستور الكشاف هذا لا يضع في وجهه الحدود والسدود, ولا يأتيه بالنواهي والزواجر لا يقبل له :" لا تفعل كذا ولا تأت بكذا ....
" هذا الدستور بتعلمه الكشاف ليس على صورة سلسلة من النواهي, بل على شكل نصائح ودوافع وتحريضات, وواجبات يجد لها في طبيعته تجاوبا هو أقوى ما يرتكز عليه هذا الدستور ليكون للكشاف الدليل الهادي المطاع , لقد خلا الدستور إذا من كل نهي, حتى من النهي عن السكرات
يجد فيه كل شر ,فلطالما كان للفتى داعيا للعصيان والمخالفة ,وان بادن باول ليذكر ,في هذا الصدد, ما خبر عن معاقرة بنت ألحان, فقال:
" لقد خبرت عواقب إدمان الكحول, فشهدت بدايته وشهدت نهايته, وشهدت إفلاس أساليب الزجر والنهي فيه, لقد أتت هذه الأساليب من خارج الإنسان, لا حول لها عليه ولا قوة بينما الإنسان لا يرتدع إلا برادع من نفسه, فهي قوة الإرادة تنبع من باطنه ,تستطيع أن تشفيه من دائه, أما الروادع الخارجية فما كانت أكثر الأحيان إلا لتزيد الطين بلة, ولا يستأصل شرا بخير يقوم مقامه, وليس بأنجح في معالجة داوء لنفس من الوسائل التي تأتي بها الكشفية, من تقوية الإرادة, واحترام الذات, ولسيطرة على الأهواء وليس بأفضل للإقلاع عن عادات سيئة, من تأتي بعادات حسنة تأخذ مكانها"
وهذا دستور الكشاف كما ورد في النص الإنكليزي الأصلي, إلا أن بعض البلدان قد أحدثت فيه من التحوير والتعديل ما لا يمس بجوهر وما أريد به تطبيقه على بعض ظروف المكان والزمان:
1. شرف الكشاف جدير بان يعتمد عليه
2. الكشاف مخلص لمليكه وضابطه ولواديه, ولبلاده ولرؤسائه ومرؤوسيه
3. على الكشاف أن يسعى بالخير إلى قريبه وان يمد إليه يد المعونة,
4. الكشاف صديق للجميع وأخ لكل كشاف مهما كانت الطبقة التي ينتمي إليها
5. الكشاف ذو نبل وشهامة
6. الكشاف صديق للحيوانات
7. الكشاف يطبع أوامر والديه ورئيس فصيلته دون تردد
8. الكشاف يبتسم أمام الصعوبات
9. الكشاف متقتصد
10. الكشاف نظيف الأفكار والأقوال والأعمال
واليك الوعد الذي يقطعه الكشاف على نفسه عندما ينخرط في سلك الكشفية:
" اعد بشرفي أن اعمل بأحسن ما أستطيع, واجبي نحو الله والملك وان أساعد القريب في كل فرصة "
واليك الآن ما يقوله بادن باول عن هذا الوعد:
" أشبه ما تثيره في نفس الفتى من روعة تأخذ بمجامع القلب, فينطلق وعده وهو صادق كل الصدق , جاد كل الجد, مصمم النية على البر به ما استطاع لكن الفتى ينسى ومن الطبيعي أن ينسى وان تزول من نفسه مع الزمن ,هذه التأثيرات القوية, فلا يجب أن يترك, بعد الوعد وشأنه ولا يجب أن نتساهل معه في أمر معرفة الدستور, وحفظه, وتنفيذه, أما الآفة الكبرى التي تترصده, فان لا يعود يذكر من الوعد والدستور إلا الحرف دون الروح والمعنى"
أما إذا فقه معنى الشرف, وتدرب على العمل بموجبه, فعلى الرئيس أن يوليه عندئذ ثقته التامة, مظهرا له بذلك انه ينزله منزلة الرجل المسؤول, وان ينيط به بعض المهام, دون أن يظهر له انه يشك في مقدرته, وانه يوجس منه خوفا, ودون أن يقف له بالمرصاد, يرقب كل حركاته وسكناته, فليتركه يعمل على ما يبدو له: ملقيا عليه مسؤولية عمله ففي المسؤولية سر النجاح وليس مثل الفصيلة ميدانا للتمرس في المسؤولية والاضطلاع بأعبائها وان الرئيس فيها إذا ما تركت له فيها حرية العمل ,ليتقدم في طرق النمو والرجولة, كما لا يتقدم قط في مدرسته
أما أكثر ما يستهوي الفتى في الكشفية فهو الحياة في العراء, والمخيمات, وأنها أيضا لظاهرة جديدة سبق بادن باول إليها عصره, وأقامها, على أسس من الشائق والمفيد معا, وليس كل من خيم بالكشاف, كما وليس كل من مخيم بمخيم كشاف فهناك أصول يجب أن إتباعها في الميخمات لتأتي بما ينبغي منها من خير ولنا في الإرشاد التالي الذي وجهه بادن باول إلى المدربين عام 1910 ما يفي بالمقصود قال:
"نحن الآن في فصل المخيمات, فهي قائمة على قدم وساق, واني لا انتهزها فرصة لأقول لكم رأي في بعضها, فلقد شهدت منها ما لم يرقني سيره ,لأنه لم يأت على أساس صالح, واني لا نصح كثيرا بالا يتسع المخيم الواحد لأكثر من ست فصائل, وليكن لكل فصيلة خيمتها الخاصة, ومكانها المحدد, وعتادها التام, فيشعر الكشافون عندئذ أنهم ليسوا أرقاما ونكرات في قطيع من الغنم, بل أشخاصا هم أعضاء حية فصيلة مستقلة تحمل تبعاتها ومسؤولياتها, فالمخيم الكبير لا يأتي بعمل كشفي وهو لا يقوم إلا بعد تهيئة هي إلى التهيئة العسكرية اقرب, ولقد زرت منذ قليل احد هذه المخيمات الكبيرة, فلم استحسنه, على ما كان عليه مع ذلك من نظام تام, لأنه كان أشبه بثكنة عسكرية منه بمخيم كشفي, فلم تراع فيه الأصول الكشفية, وقد تفككت فيه وحدة الفصيلة, - مع أنها الأساس- ليحل محلها نظام تمليه الأماكن والخيام, فالفصيلة وحدة لا تتجزأ ولا تمس مهما كانت الضروف
أما إذا جاء إلى المخيم أكثر من ست أو سبع فصائل ,فلنقسم, الفصائل إلى مخيمين اثنين, يبعد الواحد عن الأخر مسافة لا تقل عن كيلومترات ثلاث
وللكشفية كما لكل منظمة, شاراتها وقام بادن باول بوضعها, وقد خبر بعضها في الجندية وهي تنقسم إلى شارات عامة تكفي كل نشاط كشفي, كشارات الدرجتين الأولى والثانية, وشارات خاصة تغطي للكفاءات وحدها, وهي عديدة تشمل كل نواحي المعرفة الإنسانية , بحيث يجد كل ذي همة ورغبة, ما يلائمه منها, وما هو في متناوله, وكان لهذه الكفاءات محبذها وناقدوها فهب بادن باول يدافع عنها ويشرح غايتها قائلا:
" لا غاية لنا من نظام الكفاءات إلا الاهابة بالفتيان ولاسيما من كانت معارفهم المدرسية محدودة التي تدرس بعض المواضيع الشيقة المفيدة, في جو من الحماسة والتنافس, لذلك يسلكون طريق لمعرفة, تقودهم في مراقبها دون أن يدروا على شرط أن لا يتخذ ذلك النشاط شكلا مدرسيا, فإننا عندئذ نتغذى على المدرسة دون أن نكون قادرين على مجاراتها في ميدان هو ميدانها "
وللكشفية أيضا, كما لكل منظمة هامة لباسها الخاص , وضعه لها بادن باول ذاته وقد شرح رأيه في الموضوع بما يلي:
لقد مست الحاجة إلى لباس يرتديه الكشاف أثناء نشاطه الكشفي, يكون صحيا, ورخيصا, وسهلا و إلى أن اهتديت إلى الزي الملائم وقد خبرت مزاياه مع شرطة أفريقيا الجنوبية فكان خير لباس لا اقصد دون أن يكون مع ذلك نسخة سترة العسكرية
هذه لمحة عن كتاب "الطلائع" عقد دخل على الكشفية, فيما بعد تحويرات أملتها مقتضيات الزمان والمكان, إلا أن جوهر الكشفية ظل هو كما وضعه كتاب"الطلائع" وانه لا يزال الدستور الذي تتمشى عليه الكشفية العالمية
عهد التنظيم
ما كل حركة تنتشر سريعا بالحركة التي تثبت طويلا فقد تكون كنار الهشيم, تشتعل سريعا ذاهبة بالسنتها الصافية إلى عنان السماء, وتنطفئ سريعا مخلفة وراءها البرد والظلمة, بعد ما نشرت فيما حولها النار والنور
أما الكشفية فقد انتشرت سريعا كما لم تنتشر حركة مثلها, إلا أن انتشارها لم يكن من عمل الظروف ولا من عمل الحماسة ولا من عمل الهوس, مما لا يثبت معه أمر طويلا, لم يكن انتشارها مصطنعا زائفا غاشا, خدعة من خدع الأيام, كالموجة الطاغية الجارفة لا تلبث أن تنكسر على الصخرة وتنحسر
كان انتشار الكشفية ظاهرة من النمو الطبيعي كغرسة فنية قوية في تربة صالحة, تتدفق أغصانها وأوراقها وثمارا في حيوية دافقة
وليس بادل على هذه الحيوية من التنظيم الذي سير النمو, وسهر عليه, ووفر له أسباب الصحة,وليس بادل على هذه الحيوية من أن التنظيم لم يقتل الشخصية, كما قد يخشى في البنية الضعيفة, بل أنماها وهداها السبيل ,ووقاها العثرات لأنه قام على مبدأ الحرية وفترك المجال للشخصية تسعى سعيها, وتنمو نموها ,في ميدانه, وترك الحرية للنشاط الشخصي يبتكر ابتكاراته, وينفتق حيلا, وأساليب ونظرات ,وتجارب
بدأ بادن باول بتنظيم حركته منذ عام 1909 ,إذ كان بعد في الجيش, إلا انه لم يخلق لها نظامها النهائي الذي تتمشى عليه إلى اليوم إلا في السنة التالية, حينما اعتزل الخدمة في الجيش وتفرغ لشؤون الحركة متصرفا إليها بكليته فسار بها في سبيل التنظيم الإداري أشواطها الحاسمة
وجاء التنظيم الأخير في خطوطه الأساسية بعد شتى المحاولات والتجارب على الصورة التالية:
يقوم على الحركة الكشفية في مستواها الأعلى, مجلس تنفيذي يرئسه بادن باول ,يضم من الشخصيات من أتوا في الرعيل الأول, فذهبت لهم في الكشفية شهرة, وكانت لهم فيها نضال ومات, أمثال السر هربرت بلرمر والسر ادمون وسير ويرنت واولك ده بور وايفرث واللويس ثم ياتي دونه مجلس للمقاطعات ثم مجلس للمفوضين المحليين
ثم يأت هذا التنظيم قيد يكبل الحريات لان جلهم المنظمة أن ترك للإدارات المحلية ولرؤساء الفرق وللكشافين أنفسهم أوسع مجالات, يكونون فيها أنشطة همة وأوسع حية , وأطلق سرحا, لان الكشفية بدأت روحا وحركة قبل أن تكون مؤسسة ومنظمة وضلت روحا وحركة حتى دخل حدود التنظيم
لقد قسمنا تاريخ بادن باول في سيرة حياته هذه إلى قسمين: الجندية والكشاف
هل يا ترى انقسمت حياته حقا إلى مثل هذين القسمين, بحيث انه اعتنق الجندية أولا, سالكا طريقها بخطى الجندي المقدام, لا يلوي على شيء ,حتى إذا بلغ من طريقه نقطة تحول, طلق الجندية فجأة موليا لها الأدبار, واخذ يسلك سبيلا أخر, سبيل الكشفية؟ فبدأ جديا وانتهى كشاف ,كمن خلع ثوبا وارتدى غريه ؟
هل هناك من فاصل بين القسمين يبلغ مبلغ الهوة عمقا يباعد فيها بين الضفتين, حتى لينقطع من الواحدة إلى الأخرى كل سبيل؟
هل هناك ثورة على الماضي, وانقلاب بالمعنى الذي يعرف كما حدث للكثيرين غيره, وكما حدث مثلا لشارل دو فوكو,الذي انقلب من جندي ورائد إلى ناسك في الصحراء متعبد , في تحول تام أنكر فيه كل ماضيه وطوى صفحته إلى الأبد؟
كلا, إن بادن باول جندي ..
الحالتين ,انه جندي وكشاف ,معا ودائما لقد كانت حياته فريدة في سياقها ,في تماسك أجزائها ,في وحدتها.
ليس هناك من طفرات, وانقلابات ,وثورات, وتحولات, لقد سارت حياته سيرها الطبيعي, ترفعه الدرجة منها إلى ما فوقها من درجات السلم, في صعود أمين مطرد, في تطور صحيح سليم
هي الجندية أعدته للكشفية , وقادت خطاه إليها, وارتقت به في مراقيها, فاخذ من الجندية روحها الخالدة ونفخها في الكشفية نفخة صحة وحياة
أتت الكشفية إذا استكمالا للجندية , وتوسيعا في معناها, واستغلالا لصفاتها, وارتقاء بأساليبها, على نطاق شمل الكبير والصغير والشاب والطفل والفتى والفتاة
ولاشك أن القارئ قد فهم الفصول السابقة على هذا بمعنى, وعلى هذه الصورة فلقد كانت حياته فيها أسيرا إلى الأمام, وارتقاء إلى الأعالي وتمهيدا لفتح لرائع, فتح الكشفية العالمية
إنها سلسلة متصلة الحلقات قادته أخيرا إلى الكشفية كما يعرفها اليوم ونشهدها
لم تكن الكشفية لتنتشر هذا الانتشار ,وبهذه السرعة, لو لم تلقى هوى في نفس بادن باول وهوى في نفوس الأحداث, فلقد كان بادن باول يعرف الشبيبة, ويفهمها ويحبها وقد وجد السبيل إلى نفسها كما كانت الشبيبة تعرفه, وتحبه وقد وجد السبيل هي أيضا إلى قلبه فكان الحب بينه وبينها متبادل, والتفاهم تام, والتجارب كامل, وعلى نطاق واسع
جل ما يريده الشباب أن ينظر الكبار إليهم نظرتهم إلى كبير راشد ,لا إلى طفل قاصر فان بادن باول بأساليبه متمما لرغباتهم, متفهما لعقلياتهم, مستثمرا لقواهم , يدربهم بها على حياة الرجال
وفي ذات يوم من عام 1903 دقت الساعة الحاسمة في حياة بادن باول , وفي حياة الكشفية ,إذ دعاه وليم سميث, مؤسس" كتائب الفتيان" ليستعرض فرقها في حفلة عامة
ولنترك الكلام هنا لبادن باول:
" كانوا ثمانية آلاف فتى, يالمنظر هؤلاء الفتيان يسيرون في وحدات متراصة , بخطى ثابتة, ونظام رائع والتفت إلى وليم سميث وقتل له :
كم أود أن أحذو حذوك وأقوم مقامك لدى مثل هؤلاء الفتيان
وأضفت قائلا:
لو تضاعفت الجهود في هذا السبيل وتنوعت الأساليب والتدريبات إذا لتضاعف عددهم عشرات المرات
فأجابني:
هلا صدرت لكتابك " في سبيل الطلائع صبغة خاصة بالفتيان؟"
نعم الفكرة
وأصدرت الصبغة المطلوبة, وتداولتها الأيدي, وتداولتها أيدي "كتائب الفتيان" وغيرهم عدوا بالمئات والألوف ونشأت الحركة قوية جارفة واتسع نطاقها ,وأقمنا للحركة إدارة, وفتحنا لها مكتبا, وسعينا لها بمدريين, ولم تمض سنوات قلائل حتى أقمنا أول " رالي" في كلاسكوف, دعونا إليه وليم سميث
لم يكونوا يومئذ أكثر من عددا من " كتاب الفتيان" كما أنهم لم يكونوا اقل تنظيما ,وأدنى حماسة
وجمعت رؤساء الفصائل لا تحدث إليهم على حدة, ما أجملها شبيبة, والتفت إلي وليم سميث وقد دمعت عيناه تأثرا ,وقال:
دونك مكاني لدى فتيان "الكتائب" هلا قبلت؟
قد قالها صادقا, في عزم واقتناع, انه يعرف الشبيبة حق المعرفة, ويعرف حاجاتها وأدواءها, ويعرف الطرق إليها, ولقد راقه ما قام على يديه من حركة مباركة , وما بلغت إليه الحركة من نجاح ,ولم يغرب عنه ا كلينا نسير إلى هدف واحد من خدمة الشبيبة, وان في سبيل مختلفة إلا انه أبدى من النزاهة والتجرد ومن سعة الصدر, وسماحة خلق ما يجعل الحركتين تسيرين سيرهما وتمشيان جنبا إلى جنب دون احتكاك ونزاع وفي تحاب وتفاهم
كانت فكرة تطبيق أساليب الاستطلاع, التي في الجندية على الكشفية وعلى الشبيبة في الكشفية, لترويضها وتثقيفها وتربيتها فكرة خصبة, اخذ بادن باول يعمل فيها الذهن, ويقلبها في كل وجه,في اجتهاد واسع من تنقيح ولتطوير والتوضيح وتنظيم ولصقل واجلاء , حتى جاءت موافية لشروط سهلة المتناول قريبة التحقيق وافرة الثمار
إليك خطوط الكشفية الرئيسية كما عرضها بادن باول على وليم سميث عام 1906:
الغاية من الكشفية إخراج مواطنين صالحين:
والمواطن الصالح يتصف بروح التضحية ,ويخضع للواجب, ويفكر تفكيرا شخصيا صحيحا يبنيه على الواقع, ويضطلع بالمسؤوليات دون وجل, ويحسن أعماله حتى أصغرها شأنا , وله من دقة الملاحظة وسداد النظرة, وبعد الأفاق ما يؤهله للسيطرة على الظروف والتغلب على الصعاب والخروج من المأزق
أما الوسائل لتنمية هذه الصيفات , والتطبع بهذه الطباع, فعديدة وأكثرها, عملي, تأتي لي مجالات اللعب, والحكايات, والنزهات والرحلات , والاختبارات, والمسابقات, في ميدانها من السهل والجبل والغابة, والنبات والحيوان والإنسان فهي نظرة شاملة تحيط بالكون وما فيه هو الإنسان كله, في ميدان الحياة كلها والبرنامج العملي لذلك أوسع من أن نستوعبه هنا بتفاصيله
فهذه مثلا حكاية يرويها رئيس الكشفية, ينسج خيوطها من حوادث تستهوي الأطفال, وتثير حماستهم يبعثهم بعدها في تمارين عملية في اثر المجرمين الهاربين, يبحثون عنهم, ويتعقبون أثارهم, ويكتشفون أمرهم, أنها ولاشك حكاية خيالية لكنها تستمد على الواقع اليومي فتنمي الملاحظة, وتشغل البال وتبعث التفكير وتفتق الحيلة فيتعرفون على الادلة ويتعلمون تأويلها , ويتفهمون معانيها فلا تفوتهم من تلك
الأدلة والآثار فائتة ,ولا يتركون كبرة أو صغيرة إلا ويعيرونها أهميتها, ويحسبون حسابها
وهذه مثلا بعض التمارين من تلك التي تروض الحواس وتنمي الملاحظة ,وتدعو إلى التفكير
انظر إلى واجهة مخزن مدة دقيقة واحدة, ثم حول نظرك عنها, وعدد ما رايته فيها من معروضات
لاحظ بعض المارة في الطريق, ثم حاول أن تتعرف من مظهرهم إلى ما خفي عنك من مخبرهم, من المهنة, والطباع والأخلاق والسن
تعلم أن تتجه بواسطة الشمس, والقمر, والنجوم, والهواء
ادرس البرية, أو الحديقة, وحاول أن تتعرف على ما انطبع على أرضها من أثار الإنسان والحيوان والعجلات
حاول أن تشعل النار في البرية بعود واحد من الثقاب, أو اثنين رغم الهواء العاصف
تعلم أن تطبخ في البرية, وان تقيس الأبعاد بالنظر, وان تسبح في البحر والنهر, وان تخلص غريقا, وان تضع التقارير, وان تتخذ ما يجب من وسائل الصحة والنظافة
ارسم علم بلادك وتعلم معناه, ادرس تاريخ بلادك, ضع مصلحة الوطن فوق كل مصلحة, والواجب فوق كل هوى ابحث عن خدمة تؤديها ,ونصح تسديه, وعود تمد يدك فيه إلى حد
هذه وغيرها من المواضيع لن يصعب على الرئيس إيجادها, واستنباطها , لاسيما إذا توخى منها ما ينطبق على الزمان والمكان, إلا انه لا يألو جهدا في درس المواضيع الأساسية التي ذكرنا بعضها, والعودة إليها مع الكشافين في كل طرف, وفي كل سانحة, لتنطبع في نفس الكشاف, وتتحول إلى شخصية
هذه الآراء والخواطر,اخذ بادن باول يذيعها في نشرات يصدرها من وقت إلى أخر, حسب الحاجة قال في إحداها:
توضع هذه الطريقة في تربية الشبيبة لتزاحم طرقا غيرها, كما أنها لا تهدف إلى إنشاء منظمة جديدة تتنافس مع ما هو قائم من المنظمات بل لتدخل, روحا جديدة , وأساليب جديدة في صلب كل تجمع للشبيبة من المدارس أو النوادي إلى كتاب الفتيان" إلى غيرها من الجمعيات تنعشها وتجددها وتحييها ..
واخذ بادن باول يبحث له عن معاونين في كل مكان وفي كل الطبقات
وقد بعث صديقه إليه يوما خير معاونيه في هذه الحركة
كان ذلك عام 1907 في بيت ريفي للسيد ارثور بير سون, صاحب دار للطباعة والنشر وهذا ما كتبه السيد ايفرث الناقد الأدبي لداره عما حدث يومئذ قال:
" قام بادن باول بضعة أيام من صيف 1907 ضيفا على بيرسون, في داره الريفية وكان يصرف يومئذ جل اهتمامه في البحث عن معاونين أكفاء يساعدونه على نشر الحركة بين صفوف الشبيبة
وفي ذات يوم, دعا صاحب الدار أصدقاء له إلى حفلة, وبينما كان ضيوفه يلهون فيما بينهم ويتحدثون انسل بيرسون من بينهم خلسة وهم بركوب عجلته للذهاب وإذا ببادن باول يقف أمامه في اللحظة الأخيرة
إلى أين ؟
إلى زيارة مأوى للأولاد من ذوي العاهات اهتم به
وذهبت العجلة, وظل بادن باول واقفا وحده مع أفكاره, وهي تدور في رأسه ضاجة تعمل فيه عملها, وإذا به يخرج من تأملاته بالنتيجة التالية: ياله من رجل انه ليحب الأولاد حبا جما وانه علاوة على ذلك رجل أداة وتنظيم, وصاحب دار للطباعة والنشر ومحرر جريدة انه لرجل الذي اقصد
وتباحث بادن باول مع بيرسون في موضوع الساعة, ودرس معه الوسائل وتم الاتفاق
وقال بيرسون من طرفه ,عن ذلك الاجتماع:
"إنها الصدفة نادت احدنا إلى الأخر, لنساهم معا في عمل جليل كالكشفية واني لأذكر الآن بكل سرور تلك الصدفة التي جاءت بي إلى الحركة في أول عهدها, فكنت أول من وقف على طبع كتاب "الطلائع" وعلى إصدار مجلة "الكشاف"
وأراد بادن باول ,وهو على أبواب خطوة حاسمة في الكشفية ,أن يتوسع في موضوعه, فانكب على دراسة أساليب التربية المتبعة في مختلف بلدان العالم, فاقبس أشياء من بعض طقوس القبائل في أفريقيا, ومن دستور الفرسان في القرون الوسطى , ومن الحركة الرياضية الناشئة في ألمانيا, ومن بعض الدراسات النظرية, مما أغنى به طريقته, وساعده على توسيع نطاقها, وإدخالها إلى شتى نواحي الحياة
إلا انه أفاد من مخيم جزيرة برونسي ما لم يفده من كل ما سواه, فلقد طبق هناك لأول مرة أساليبه مع فرقة من الشبان أتوا من مختلف المنظمات, ومن " كتائب الفتيان" ومن غيرها من الجمعيات الموجودة
قام هذا المخيم ,الذي هم المخيم الاول للكشفية , من 15 حزيران إلى 09 آب من عام 1907 في جزيرة كثيرة الغابات, في موقع أعده رؤساء "الكتائب" وزودوه بما يلزم وقد ساهم فيه أركان الكشفية يومئذ وعلى رأسهم بادن باول
أتت التجربة الأولى ناجحة كل النجاح, وهاك ما كتبه عنها بادن باول يقول:
" قسمنا المخيمين إلى فصائل من خمسة أفراد وتسلم القيادة في كل فصيلة منها أكبرها سنا, تحمل وحده فيها المسؤولية التامة, فكان هذا النظام من أهم أسباب النجاح وكانت الفصيلة, الوحدة المستقلة تخيم وحدها وتعمل وحدها وتنظم شؤونها وحدها, وتدين بالطاعة لرئيسها متقيدة في كل أعمالها ..
على أربابها , ويبعث روح التنافس المجدي بين أعضائها يدعوهم إلى التسابق في مضمار الأعمال
وسارت الأمور على هذا المنوال, يرتقي مستواها من يوم إلى يوم يندرج بها الكشافون في طرق الكشفية ويتمرسون في أساليبها
وكان لكل فصيلة يومها من الخدمة, تقوم فيه بإعداد الطعام, وتتولى تنفيذ الأوامر في الشؤون العامة, وتتكلف مهام الحراسة في الليل والنهار
وفي المساء كنت ترى كل فرد من فصيلة خدمة قد ارتدى رداءه والتحف بأغطيته , وحمل صحنه وكبريته, وذهب إلى المكان المعد للطبخ , يشعل النار بأقل ما يمكن من عود الثقاب, وبعد العشاء بينما كل فصيلة نهيئ مرقدها, يأخذ لحراس مكانهم لحراسة الليل
ولقد دلنا الاختبار على أن أفيد الشروح عن موضوع, اقلها كلاما وأكثرها أمثلة فنجلس حول النار نخوض شتى المواضيع ونثرثر في اقر بها, حتى إذا تم لنا فهم موضوع الساعة, نقوم له في اليوم التالي نجري فيه بعض التطبيقات العملية, في مباراة تشترك فيها الفصائل كلها وقد علمنا الاختبار انه ليس مثل القراءت الطويلة السهلة مجلبة للضجر ومدعاة للفتور
واليك بعض ما تطرق من مواضيع نستهدف إلى تنمية الملاحظة وتقوية الانتباه وهذا مثلا موضوع "الأثر"
اجتمعنا بعد العشاء ودائرة متراصة حول نار , اخذ الرئيس يسرد على المسامع حكاية شيقة, أراد أن يظهر بها ما نجنيه من فائدة من معرفة الأثر ,والتحقق منه وتعقبه
وفي اليوم التالي نجري أمامهم بعض التجارب من أثار للأقدام, لأقدام الإنسان والحيوان نطبعها على الحضيض هنا وهناك, ندربهم على التعرف عليها والتفهم لمدلولها
وبعد الظهر من اليوم ذاته نقوم بلعبة نسميها بلعبة (الغزال الشارد) فنطلق احدهم ..وقد لقبناه بالغزال وقد زودناه في جعبته بست كرات من كرات التنس, فيبتعد عدوا وقفز ولا يلبث أن يغيب عن الأنظار وبعد عشرين دقيقة من انطلاقه, أرسل في إثره أربعة من الكشافين لمطاردته, وقد تزود كل منهم بكرة واحدة, ويبدأ الكر والفر والمطاردة ولنزال وكان الغزال بعد أن سار مسافة كيلومتر وحداو اثنين, يتعرج في طريقه, فيختبئ هنا ويظهر هناك نصب استطرد به الفخاخ, مشوشا عليهم أثاره , مظللا إياهم ما استطاع حتى لم ينفرد بأحدهم رماه بكرة فأراه قتيلا, ولحق به المطاردون, فاحاطوبه وأطلقوا عليه نيرانهم, وقت والمطارد يقتل بإصابة واحدة من الغزال والغزال يقتل بإصابات ثلاث من مطارديه
على هذا الصورة كانت أساليب الكشفية تطبق في المخيم فيصير ولا تنقيهم ثم درسها ثم العمل بها
وكان النظام سائدا والقوانين مراعية بحيث أن محكمة الشرف التي تكونت للنظر في أمر من يخالفها ...........
لأجله, ولاغرو فلقد قطع الكشاف على نفسه عهدا بان يأتي أعماله على أحسن ما يستطيع
وكان اكبر الفصيلة سنا يضطلع بمهام الرئاسة, ويتحمل المسؤولية عن سير فصيلته "
وكان لنار المخيم سحرها على الكشافين وأنهم ليرونها للمرة الأولى وهذا ما كتبه احد من شهد المخيم, عن بادن باول قال:
"إني لا رآه إلى الآن أمام النار تعكس على وجهه أنوارها , وقد انتصب بقامته الدقيقة الناعمة, طيفا من نور, رؤيا من الأساطير, يشع سرورا وحبا بالحياة, يتنقل دون جهد من المرح إلى الجد, يستجيب لكل طلب , ويتجاوب مع كل حالة , يقلد تارة أصوات العصافير, وأخرى صرخات الحيوانات, يعلم تارة كيف تقتفي الآثار ويسرد تارة أخرى نكتة حضرته, أو حكاية قام على الفور بنسجها ثم يرقص ويغني ويدور حول النار ويضع هنا إرشادا في كلمات, وهناك نصيحة في نظرات, يوجه أناء تعليما دقيقا وأنا نقدا لطيفا مما كان يقع على الجميع لحسن وقع حتى ليسيرون وراءه إلى أقاصي الأرض
كان النجاح إذا حليف المخيم في كل أطواره بحيث أن بادن باول خرج منه ارسخ عقيدة بضرورة حركته, واشد عزيمة على متابعة الجهود في سبيلها
ورأي أن أول ما تدعوا الحاجة إليه الآن كتاب يكون بمثابة الدليل والمرشد في مضمار الكشفية فاخذ يعد له العدة بهمته المعهودة, وقدم السيد بيرسون أثناء ذلك مكتبا أقامت الحركة فيه إدارتها المركزية كما تبرع بتكاليفها كلها للسنة الأولى ووعد بإصدار نشرة أسبوعية باسم الكشاف بينما اخذ بادن باول يلقي هنا وهناك المحاضرات يشرح فيها حركته للجمهور
وظهر الكتاب,على مراحل ستة متوالية, في أجزاء ستة, بعنوان " الطلائع" بيع الجزء منها بثمن زهيد, وكان حسب الكتاب من اسم مؤلفه داعيا للانتشار السريع الجارف, فتلقفته أيدي الشبيبة في كل أطراف العالم, بما لم تتلقف به كتابا ,من الحماسة واخذ الأحداث يمارسون تمارينه, ويلعبون ألعابه, ويتجمعون ,من تلقاء أنفسهم فصائل وفرقا, يضعون على راس الواحدة منها احدهم سائلين كل من توسموا فيه الكفاءة بان يقود فرقة منها
وظهر العدد الأول من مجلة "الكشاف" في 14 نيسان 1908 وان ما حدث يوما لأحدهم لدليل على ما قد حدث من أمثاله للكثيرين,قال:
"أراني يوما احد معلمي المدارس كتابا بعنوان "الطلائع" وطلب مني أن اقرأه وان أدلي إليه برأي فيه, فأخذته على كره, وتصفحته تصفحا سريعا, ثم ألقيت به على زاوية من منضدتي, ولم البث أن نسيت مرة إلى أن وقع عليه نظري ذات يوم غائم ممطر فأخذته واعدت قراءته بانتباه ولما ذهبت به إلى صاحبي بادرني بقوله:
أو ق... فصيلة من الطلائع ؟
فأجبته على الفور , وربما دون ترو:
لقد قبلت
قبلت وان لا ادري ما تخبئه لي الأيام, ولا ادري أن الحركة سوف تأخذ مني وقتي وقلبي وأنها سوف تقلب حياتي رأسا على عقب
وقبلت إذا وأنا أتخيل نفسي يومذاك في مرتبة قائد له تحت إمرته مرؤوسون يتخلف إليهم من وقت إلى أخر وربما في كل شهر , يأتيهم والابتسامة على ثغره, فيقول لهذا كلمة تشجيع وتحميس وللأخر كلمة عطف وشفقة ثم يذهب ,وحسبه ما فعل..
هذا ما تخيلته يومئذ
وإذا بي أجد نفسي ذات مساء محرق من شهر أب أمام الحقيقة في غرفة وطئة تحت المطبخ وحولي ثمانية من الأحداث مع رئيسهم يتمرسون في عقدة المبتدئ ..
وكان هذا النشاط صداه البعيد في منظمات الشبيبة وقد انجرفت مع غيرها لتيار الحماسة تتجند للفكرة الجديدة, تجري ما ابتكرت من عشرات وتعتنق ما علمت من مبادئ وقد فام ..باول يومئذ اتصالات عديدة مع رؤسائها يشرح ويوضح ..تطوى عليه ..سوية في التربية من عناصر تقدمية انسجمت فيها كل ما كان صالحا في غيرها من مختلف أساليب التربية
ولقد مر القول بان بادن باول لم يكن يومئذ ليفكر بإنشاء منظمة جديدة, بل بإنعاش ما قام من المنظمات بأسلوب من التربية جديد
وهو لم ينشئ حركته دارة مركزية مستقلة لا عندما دعت الحاجة إليها ,وقد طلبتها المنظمات القائمة ذاتها جمعا للشتات وتنسيقا للجود
إنما هي الفكرة ذاتها أخذت تحيا وتنموا وتتحقق أعمالا وفرقا وشعبا وها هي نشرة الإدارة المركزية قد صدر العدد الأول منها في تموز 1909 وفيه من الأرقام ما يدل على مدى التقدم, وفيه أيضا لائحة طويلة بأسماء المدربين المسؤولين , وقد بلغ عددهم يومئذ الأربعمائة والعشرين
وقد قضى بادن باول عطلته في تلك الصيف في أمريكا, متجولا بين أقطارها ,داعيا في محاضراته العديدة إلى اعتناق فكرة الكشفية بالسير على أساليبها
وأقيم "الرالي" الأول في أيلول 1909 ضم عشرات ألاف كشاف وقد ظهر فيه لأول مرة ظهور رمزيا, فرق من مرشدات قد نشأن نشأة عفوية فاتين إلى "الرالي" يعمل على ضرورة الاهتمام بتنظيم فرق المرشدات ينضممن مثل أخوتهن إلى الحركة
وأخذت لحركة على اثر هذه النشاط الواسع, تسير في طريق مركزية في مقر خاص تنتهي يوم مجلسا أعلى الشورى وتنتمي إليها لجانا إقليمية موزعة في كل إنكلترا, وفي أقطار عديدة من العالم
أنها لخطوة حاسمة خظتها الحركة في سبيل التنظيم الأخير
إلا أن بادن باول قد بلغ هنا إلى مفترق طرق عليه أن يختار أحداها فيضحي في ما سواها ليسلكها وحدها إلى النهاية
الطلائع
انه ليستهوي الفتيان, هذا الكتاب الشائق ولقد استقبلوه استقبالهم لضالتهم المنشودة, فشغفوا به أيما شغف , وتحمسوا له أيما تحمس, وراحوا يردون موارده, ويسلكون طرقه, ويمعنون فيه نهبا واقتباسا, لا يولون على شيء فلا مطولات علمية أو فلسفية يضيق الأولاد بها صدرا فيتجاوزونها ولا شروح نظرية مسهبة تجعل منه سفرا مدرسيا سئم الأولاد أمثاله, انه كتاب منهم واليهم
انه كتاب منهم لأنه حياتهم ذاتها يحيونها في بصيرة ووعي , على مرأى منهم ومسمع , في ميادين اللعب والجد, والفكر والعمل, إنهم هم ذاتهم أطفال هذه اللعبة , وأبطال تلك الحكاية وفرسان ذلك القتال, وكل شيء فه لهم جديد وقديم معا: جديد جدة الحاضر وقديمه قدم الإنسان فكأنهم مع جديده في ألفة سنين وكأنهم مع أشخاصه في عشرة أعوام وكان عهدهم بجديدة قديم إذ يتعرفون إليه في أعماق كيانهم
وانه كتاب إليهم لأنه يسد فيهم حاجة حيوية, تشع له جوعا ويروي لهم عطشا, جوعا وعطشا إلى المنظور والملموس إلى الخيال والشعور إلى الجميل والرائع, إلى كل ما في الحياة من أشكال ومظاهر وصور فهو يتكلم إلى الولد عن كل شيء بلغته هي لغة الولد, فيتكلم إلى عقله يفتحه بما يطرقه به من أفكار خصبة وخواطر منيرة, ويتكلم إلى قلبه يحرك ساكنة ويثير أهواءه ويبعث رغباته لكي يشبعها من كل ما هو إنساني ويتكلم إلى حواسه يغذيها أشغالا, وألعاب وصورا , ومتعات, ولذائذ ينميها بها ويغنيها ويتكلم إلى نفسه يستجيب إلى نداء الأعالي الذي يتردد في جوانبها, فيسموا بها إلى أجواء صافية من التضحية ,والمحبة والإخاء يتكلم إليه كله, تلي جسمه ونفسه , إلى عقله وقلبه, إلى طفل اليوم, والى رجل الغد
للكتاب أجزاء ستة, صدر كل جزء ومنها على جدة , في فترات قصيرة من الزمن ثم جمعت كلها في مجلد واحد لم يلبث أن بيع منه الآلاف من النسخات وترجم إلى أهم لغات العالم
يشتمل الجزء الأول على بعض إرشادات عامة للمعسكرات يشرح له فيها ما يقوم به كل من رئيس الفصيلة ,أو رئيس الطليعة ,من دور ثم يورد برامج كاملة لأربع من سهرات نار المخيم, هذه بعض موضيعها :
· يبدأ برنامج السهرة الأولى بحديث عن فتيان مافكنج يمهد به للكلام في الكشفية فيحددها بأنها استعداد وخدمة لخدمة الجماعة وينتهي القصة "كيم" للكاتب كيلنغ
· ويبدأ برنامج السهرة الثانية بقوله " على من يريد من الفتيان أن يكون كشافا, أن ينضم إلى فصيلة من الفصائل التي تألفت في إحدى منظمات الشبيبة, أو أن يبحث له عن رفاق خمسة ينضمون إليه, فيؤلف هو ذاته معهم فصيلة كشفية جديدة, ثم تأتي لعبة "كيم" تجري بعدها تمارين في إشعال النار, فيقول للمدرب ادع الكشافين ليشعل كل منهم ناره, على ما يرى, ثم قم بملاحظاتك, ترشدهم بها إلى الطريقة المثلى لإشعال النار وتنتهي السهرة بقصة فتى توصل بذكائه وحيلته إلى اكتشاف الجريمة
· وفي السهرة الثالثة يشرح مواد بعض الامتحانات ومدلول بعض الشارات
· وفي السهرة الرابعة يدور الكلام على دستور الكشاف يشرحه الشرح الشامل الوافي
وتشتمل الأجزاء الأربعة الأخرى من الكتاب على المواد التالية: الآثار وتعقبها, الإشارات وقراءتها, الزحف,الحيونات ,النبات, الاستكشاف,المخيم, المطبخ, حياة في العراء, لغة المورس والسيمافور, القوة البدنية ,العادات الصحية, الوقاية من الأمراض , الفروسية ,النظام, الشخصية ,التمريض, بانتظار الطبيب, الوطنية
أما الجزء السادس والأخير فيشتمل على مجموعة كبيرة من الألعاب والتمارين والرياضات, تجري كلها في العراء وهناك بعض الإرشادات للمدربين عن الأساليب التي يجب إتباعها في هذه الألعاب والتمارين لكي تسلك طريقها وتأتي بفائدتها
سر الكتاب إذا انه يشوق للأولاد أعمالا هم إليها بطبيعتهم ميالون, كإشعال النار والطبخ في العراء, والكر والفر ,والهرب والمطاردة, والاستكشاف والتحري, وتعقب الآثار, واستنباط الحيل, والألعاب التي تشبه المغامرات, مما يستنفر في المرء القوى الكامنة ويدعو إلى الثقة بالنفس وينمي الشخصية
بذلك ادخل بادن باول أهواء الفتى وأمياله وغرائزه ذاتها, كعناصر أساسية في صلب أسلوب للتربية شامل, فتطهرت فيه, و تسددت, أسامت, وانسجمت مع المبادئ القويمة, فتحولت هكذا من قوى سامحة عمياء إلى أسباب حياة الإنسانية مثلى
..بادن باول من خبير لنفس الطفل إذ يقول:
" إننا نأخذ الولد لتربيته, وهو بعد في سن نصرة, تطير به الحماسة طيرانا إلى كل ما يطلب منه من جميل نبيل فيستمع منا إلى كل قول , ويلبي منا كل نداء فتنمو شخصيته ويبلغ مبلغ الرجولة الكاملة"
يعد بادن باول الفصيلة أفضل ما ابتكر من أسلوبه: أنها حجر الزاوية عليه يقوم البناء وبه يتحقق ما تصبو إليه التربية الحقة من بناء للشخصية وتقوية الشعور بالمسؤولية, ورأيه في ذلك صريح
يقول:" من المربين والمدربين من لم يفهموا بادئ ذي بدء فكرة الفصيلة وما تنطوي عليه نظامها من فوائد إلا أنهم لم يلبثوا أن أدركوا حقيقتها ووقفوا على فوائدها الجمة, ومزيتها الكبرى أنها تجاري طبيعة الولد ,وتساير ميله إلى التكتل والتجمع , فهو ما ينشط للعب, أو لمغامرة, أو للعبث, حتى تراه قد تقسم وتوزع فرقا, وشرذمات ,وعصابات نشأت على حين غرة ,نهض الأقوى بقيادتها, فإذا أحسنت فهم نظام الفصيلة , وألقيت بمقاليد المسؤوليات فيها على رئيسها ,فانك لا تلبث أن تجني ثمارها وافرة ,أما إذا أبقيت في يديك الزمام, وحرصت كل الحرص على القيادة, لا يشاركك فيها من الفصيلة مشارك, فانك لا تلبث أن تبوء بالفشل"
هذه الأقوال وأمثالها عن نظام الكشفية علينا أن نحسن فهمها فإننا إذ نلقي على الفتى مسؤولية فصيلته, إنما نوليه ثقتنا, إلا أننا بذلك لا نتركه وشأنه يسير على هواه, دون دليل ورادع فله من شريعة الكشاف بنوع خاص , أفضل دليل واكبر رادع
ودستور الكشاف هذا لا يضع في وجهه الحدود والسدود, ولا يأتيه بالنواهي والزواجر لا يقبل له :" لا تفعل كذا ولا تأت بكذا ....
" هذا الدستور بتعلمه الكشاف ليس على صورة سلسلة من النواهي, بل على شكل نصائح ودوافع وتحريضات, وواجبات يجد لها في طبيعته تجاوبا هو أقوى ما يرتكز عليه هذا الدستور ليكون للكشاف الدليل الهادي المطاع , لقد خلا الدستور إذا من كل نهي, حتى من النهي عن السكرات
يجد فيه كل شر ,فلطالما كان للفتى داعيا للعصيان والمخالفة ,وان بادن باول ليذكر ,في هذا الصدد, ما خبر عن معاقرة بنت ألحان, فقال:
" لقد خبرت عواقب إدمان الكحول, فشهدت بدايته وشهدت نهايته, وشهدت إفلاس أساليب الزجر والنهي فيه, لقد أتت هذه الأساليب من خارج الإنسان, لا حول لها عليه ولا قوة بينما الإنسان لا يرتدع إلا برادع من نفسه, فهي قوة الإرادة تنبع من باطنه ,تستطيع أن تشفيه من دائه, أما الروادع الخارجية فما كانت أكثر الأحيان إلا لتزيد الطين بلة, ولا يستأصل شرا بخير يقوم مقامه, وليس بأنجح في معالجة داوء لنفس من الوسائل التي تأتي بها الكشفية, من تقوية الإرادة, واحترام الذات, ولسيطرة على الأهواء وليس بأفضل للإقلاع عن عادات سيئة, من تأتي بعادات حسنة تأخذ مكانها"
وهذا دستور الكشاف كما ورد في النص الإنكليزي الأصلي, إلا أن بعض البلدان قد أحدثت فيه من التحوير والتعديل ما لا يمس بجوهر وما أريد به تطبيقه على بعض ظروف المكان والزمان:
1. شرف الكشاف جدير بان يعتمد عليه
2. الكشاف مخلص لمليكه وضابطه ولواديه, ولبلاده ولرؤسائه ومرؤوسيه
3. على الكشاف أن يسعى بالخير إلى قريبه وان يمد إليه يد المعونة,
4. الكشاف صديق للجميع وأخ لكل كشاف مهما كانت الطبقة التي ينتمي إليها
5. الكشاف ذو نبل وشهامة
6. الكشاف صديق للحيوانات
7. الكشاف يطبع أوامر والديه ورئيس فصيلته دون تردد
8. الكشاف يبتسم أمام الصعوبات
9. الكشاف متقتصد
10. الكشاف نظيف الأفكار والأقوال والأعمال
واليك الوعد الذي يقطعه الكشاف على نفسه عندما ينخرط في سلك الكشفية:
" اعد بشرفي أن اعمل بأحسن ما أستطيع, واجبي نحو الله والملك وان أساعد القريب في كل فرصة "
واليك الآن ما يقوله بادن باول عن هذا الوعد:
" أشبه ما تثيره في نفس الفتى من روعة تأخذ بمجامع القلب, فينطلق وعده وهو صادق كل الصدق , جاد كل الجد, مصمم النية على البر به ما استطاع لكن الفتى ينسى ومن الطبيعي أن ينسى وان تزول من نفسه مع الزمن ,هذه التأثيرات القوية, فلا يجب أن يترك, بعد الوعد وشأنه ولا يجب أن نتساهل معه في أمر معرفة الدستور, وحفظه, وتنفيذه, أما الآفة الكبرى التي تترصده, فان لا يعود يذكر من الوعد والدستور إلا الحرف دون الروح والمعنى"
أما إذا فقه معنى الشرف, وتدرب على العمل بموجبه, فعلى الرئيس أن يوليه عندئذ ثقته التامة, مظهرا له بذلك انه ينزله منزلة الرجل المسؤول, وان ينيط به بعض المهام, دون أن يظهر له انه يشك في مقدرته, وانه يوجس منه خوفا, ودون أن يقف له بالمرصاد, يرقب كل حركاته وسكناته, فليتركه يعمل على ما يبدو له: ملقيا عليه مسؤولية عمله ففي المسؤولية سر النجاح وليس مثل الفصيلة ميدانا للتمرس في المسؤولية والاضطلاع بأعبائها وان الرئيس فيها إذا ما تركت له فيها حرية العمل ,ليتقدم في طرق النمو والرجولة, كما لا يتقدم قط في مدرسته
أما أكثر ما يستهوي الفتى في الكشفية فهو الحياة في العراء, والمخيمات, وأنها أيضا لظاهرة جديدة سبق بادن باول إليها عصره, وأقامها, على أسس من الشائق والمفيد معا, وليس كل من خيم بالكشاف, كما وليس كل من مخيم بمخيم كشاف فهناك أصول يجب أن إتباعها في الميخمات لتأتي بما ينبغي منها من خير ولنا في الإرشاد التالي الذي وجهه بادن باول إلى المدربين عام 1910 ما يفي بالمقصود قال:
"نحن الآن في فصل المخيمات, فهي قائمة على قدم وساق, واني لا انتهزها فرصة لأقول لكم رأي في بعضها, فلقد شهدت منها ما لم يرقني سيره ,لأنه لم يأت على أساس صالح, واني لا نصح كثيرا بالا يتسع المخيم الواحد لأكثر من ست فصائل, وليكن لكل فصيلة خيمتها الخاصة, ومكانها المحدد, وعتادها التام, فيشعر الكشافون عندئذ أنهم ليسوا أرقاما ونكرات في قطيع من الغنم, بل أشخاصا هم أعضاء حية فصيلة مستقلة تحمل تبعاتها ومسؤولياتها, فالمخيم الكبير لا يأتي بعمل كشفي وهو لا يقوم إلا بعد تهيئة هي إلى التهيئة العسكرية اقرب, ولقد زرت منذ قليل احد هذه المخيمات الكبيرة, فلم استحسنه, على ما كان عليه مع ذلك من نظام تام, لأنه كان أشبه بثكنة عسكرية منه بمخيم كشفي, فلم تراع فيه الأصول الكشفية, وقد تفككت فيه وحدة الفصيلة, - مع أنها الأساس- ليحل محلها نظام تمليه الأماكن والخيام, فالفصيلة وحدة لا تتجزأ ولا تمس مهما كانت الضروف
أما إذا جاء إلى المخيم أكثر من ست أو سبع فصائل ,فلنقسم, الفصائل إلى مخيمين اثنين, يبعد الواحد عن الأخر مسافة لا تقل عن كيلومترات ثلاث
وللكشفية كما لكل منظمة, شاراتها وقام بادن باول بوضعها, وقد خبر بعضها في الجندية وهي تنقسم إلى شارات عامة تكفي كل نشاط كشفي, كشارات الدرجتين الأولى والثانية, وشارات خاصة تغطي للكفاءات وحدها, وهي عديدة تشمل كل نواحي المعرفة الإنسانية , بحيث يجد كل ذي همة ورغبة, ما يلائمه منها, وما هو في متناوله, وكان لهذه الكفاءات محبذها وناقدوها فهب بادن باول يدافع عنها ويشرح غايتها قائلا:
" لا غاية لنا من نظام الكفاءات إلا الاهابة بالفتيان ولاسيما من كانت معارفهم المدرسية محدودة التي تدرس بعض المواضيع الشيقة المفيدة, في جو من الحماسة والتنافس, لذلك يسلكون طريق لمعرفة, تقودهم في مراقبها دون أن يدروا على شرط أن لا يتخذ ذلك النشاط شكلا مدرسيا, فإننا عندئذ نتغذى على المدرسة دون أن نكون قادرين على مجاراتها في ميدان هو ميدانها "
وللكشفية أيضا, كما لكل منظمة هامة لباسها الخاص , وضعه لها بادن باول ذاته وقد شرح رأيه في الموضوع بما يلي:
لقد مست الحاجة إلى لباس يرتديه الكشاف أثناء نشاطه الكشفي, يكون صحيا, ورخيصا, وسهلا و إلى أن اهتديت إلى الزي الملائم وقد خبرت مزاياه مع شرطة أفريقيا الجنوبية فكان خير لباس لا اقصد دون أن يكون مع ذلك نسخة سترة العسكرية
هذه لمحة عن كتاب "الطلائع" عقد دخل على الكشفية, فيما بعد تحويرات أملتها مقتضيات الزمان والمكان, إلا أن جوهر الكشفية ظل هو كما وضعه كتاب"الطلائع" وانه لا يزال الدستور الذي تتمشى عليه الكشفية العالمية
عهد التنظيم
ما كل حركة تنتشر سريعا بالحركة التي تثبت طويلا فقد تكون كنار الهشيم, تشتعل سريعا ذاهبة بالسنتها الصافية إلى عنان السماء, وتنطفئ سريعا مخلفة وراءها البرد والظلمة, بعد ما نشرت فيما حولها النار والنور
أما الكشفية فقد انتشرت سريعا كما لم تنتشر حركة مثلها, إلا أن انتشارها لم يكن من عمل الظروف ولا من عمل الحماسة ولا من عمل الهوس, مما لا يثبت معه أمر طويلا, لم يكن انتشارها مصطنعا زائفا غاشا, خدعة من خدع الأيام, كالموجة الطاغية الجارفة لا تلبث أن تنكسر على الصخرة وتنحسر
كان انتشار الكشفية ظاهرة من النمو الطبيعي كغرسة فنية قوية في تربة صالحة, تتدفق أغصانها وأوراقها وثمارا في حيوية دافقة
وليس بادل على هذه الحيوية من التنظيم الذي سير النمو, وسهر عليه, ووفر له أسباب الصحة,وليس بادل على هذه الحيوية من أن التنظيم لم يقتل الشخصية, كما قد يخشى في البنية الضعيفة, بل أنماها وهداها السبيل ,ووقاها العثرات لأنه قام على مبدأ الحرية وفترك المجال للشخصية تسعى سعيها, وتنمو نموها ,في ميدانه, وترك الحرية للنشاط الشخصي يبتكر ابتكاراته, وينفتق حيلا, وأساليب ونظرات ,وتجارب
بدأ بادن باول بتنظيم حركته منذ عام 1909 ,إذ كان بعد في الجيش, إلا انه لم يخلق لها نظامها النهائي الذي تتمشى عليه إلى اليوم إلا في السنة التالية, حينما اعتزل الخدمة في الجيش وتفرغ لشؤون الحركة متصرفا إليها بكليته فسار بها في سبيل التنظيم الإداري أشواطها الحاسمة
وجاء التنظيم الأخير في خطوطه الأساسية بعد شتى المحاولات والتجارب على الصورة التالية:
يقوم على الحركة الكشفية في مستواها الأعلى, مجلس تنفيذي يرئسه بادن باول ,يضم من الشخصيات من أتوا في الرعيل الأول, فذهبت لهم في الكشفية شهرة, وكانت لهم فيها نضال ومات, أمثال السر هربرت بلرمر والسر ادمون وسير ويرنت واولك ده بور وايفرث واللويس ثم ياتي دونه مجلس للمقاطعات ثم مجلس للمفوضين المحليين
ثم يأت هذا التنظيم قيد يكبل الحريات لان جلهم المنظمة أن ترك للإدارات المحلية ولرؤساء الفرق وللكشافين أنفسهم أوسع مجالات, يكونون فيها أنشطة همة وأوسع حية , وأطلق سرحا, لان الكشفية بدأت روحا وحركة قبل أن تكون مؤسسة ومنظمة وضلت روحا وحركة حتى دخل حدود التنظيم