كان كما قالت عائشة - رضي الله عنها - : " لا يفضِّل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا ، وكان قلَّ يوم يأتي إلا وهو يطوف علينا جميعًا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبغ إلى التي هو يومُها فيبيت عندها " أبوداود .
ولم يكن يتغير حاله في العدل تبعًا لتغير أحواله سفرًا وحضرًا، بل لقد كان يعدل في سفره كما يعدل في حضَره، كما قالت عائشة - رضي الله عنها - : " كان رسول الله إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيَّتهُن خرج سهمُها خرج بها معه ، قالت : وكان يقسم لكل امرأة منهن يومها وليلتها ، غير أن سودة بنت زمعة وهبت يومها وليلتها لعائشة - رضي الله عنها - زوج النبي تبتغي بذلك رضا رسول الله " البخارى.
تعني بذلك لمَّا كبرت، وأضحت لا إربة لها في الرجال.
وكان من عدله بينهن أنه كان إذا تزوج ثيِّبًا أقام عندها ثلاثًا لإيناسها، ثم يقسم لها كسائر نسائه، كما روت أم سلمة - رضي الله عنها - أن رسول الله أقام عندها ثلاثًا، وقال لها : " إنه ليس بك على أهلك هوان، إن شئتِ سبَّعت لك - أي : أقمت عندك سبعاً - وإن سبَّعت لك سبَّعت لنسائي " قالت : " ثلِّث " مسلم .
ولقد بلغ به الحال في عدله أنه لم يفرِّط فيه حتى فـي مرض موته، حيث كان يُطاف به عليهن في بيوتهن كل واحدة في نوبتها، قالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - : " لمَّا ثقُل النبي ، واشتد به وجعه استأذن أزواجه في أن يمرَّض في بيتي فأذنَّ له ... " الحديث - البخارى .
وفي رواية قالت: " إن رسول الله كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين أنا غدًا ؟ يريد يوم عائشة، قالت: فأذن له أزواجه أن يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت: فمات في اليوم الذي كان يدور عليَّ فيه في بيتي، فقبضه الله وإن رأسه لبين نَحْري وسَحْري وخالط ريقه ريقي “ البخاري.
ومع ما كان عليه من كمال العدل بين نسائه في كل ما يقدر عليه مما هو ( فى يده / فإنه مع ذلك كان يعتذر إلى الله تعالى فيما لا يقدر عليه مما هو ) خارج عن نطاق التكليف، كما قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - : " كان رسول الله يقسم فيعدل ويقول : " اللَّهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك " ( أبو داود ) وهو يعني بذلك القلب كما فسَّره به أبو داود ، وقيل : يعني الحب والمودة، كما فسره الترمذي، والمعنى: أن القسمة الحسِّية قد كان يوفِّي بها على الوجه الأكمل لأنها بيده، لكن القلب بيد الله، وقد جعل فيه حب عائشة أكثر من غيرها، وذلك خارج عن قدرته وإرادته.
ومع ذلك فهو يضرع إلى الله أن لا يلومه على ما ليس بيده، مع أن الأمر القلبي لا يجب العدل فيه، وإنما العدل في المبيت والنفقة، ولكن هذا من باب قول الله تعالـــى: ( والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ) المؤمنون : 60 .
مما يدل على أن أمر العدل بين الزوجات خطير كما بينه في حديث آخر حيث قال: " من كانت له امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشــِقه ساقط " . وفي رواية ( مائل ) أبو داود وغيره.
وفي عشرة رسول الله هذه أسوة للمؤمنين، وعليهم معرفتها والتأسي بها لقول الله تعالى: ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا ) ( الأحزاب: 21 ) لأن فعله كقوله وتقريره، تشريع لأمته، وهدى لهم ، يجب عليهم الإقتداء به ما لم يكن الفعل خاصاً به .