هذه هي .. فمن لها ؟!
د. علي بن عمر بادحدح
مهمة تصدى لها الأنبياء، واضطلع بها أئمة العلماء، وحمل عبأها الخلّص من الدعاة الأصفياء، إنها مهمة جليلة، غاياتها نبيلة، وآثارها جميلة، لكنها مهمة ثقيلة، ومع ذلك يدّعي الانتساب إليها جماهير غفيرة.
وكلٌ يدّعي وصلاً بليلى **** وليلى لا تقر لهم بذاكا
وفي سائر الدول وزارات وبرامج خاصة بها، إنها التربية، التي يُربط بها بناء الأجيال، وصلاح الأحوال.
التربية تكلم عنها وعني بها الفلاسفة والعلماء منذ قديم الزمن، فأفلاطون الفيلسوف الشهير قال:" إن التربية هي إعطاء الجسم والروح ما يمكن من الجمال والكمال " ، وهي كلمات جميلة ذات دلالات عميقة، فالجمع بين الجمال والكمال لكل من الجسم والروح ليس أمراً سهلاً، ولعل تعريف التربية بطبيعة عملها ومجالاته يوضح مدى ضخامتها، فهي :" عملية تشكيل الشخصية السوية المتكاملة في جميع جوانبها روحياً وعقلياً ووجدانياً وخلقياً واجتماعياً وجسمياً ".
والتربية في المفهوم اللغوي ترجع إلى الملك والسيادة، والنماء والزيادة، فرب الدار أي مالكها وسيدها، وربَّى المال أي نماه وزاده، ومن هذه الدلالة اللغوية البسيطة تتجلى ثلاثة جوانب أساسية في المربي والعملية التربوية :
الأول : تميز المربي وتفوقه في ملكاته وقدراته وهذه بدهية من مقتضيات الملك والسيادة.
الثاني : واجب المربي في تنمية من يربيه وتزكيته وزيادة خصاله حسناً ومهاراته صقلاً .
الثالث : من مهمات التربية الحماية والوقاية إذ هذا من طبيعة مهمة المالك في ملكه .
وكذلك من طبيعة القدرة والاستمرار في النماء والزيادة، ومعنى ذلك أن التربية مهمة مستمرة لا تتوقف عند زمن أو سن معين ولا عند مستوى محدد من العلم والإدراك .
ومما يوضح صعوبة هذه المهمة هو ميدان عملها إذ هي في الأساس تتعامل مع النفوس والأرواح لا مع الجسوم والأشباح، والنفس البشرية عالم من الغرائب والعجائب، وهي من أعظم مخلوقات الله المعجزة فقد جعلت في كفة وآيات الكون في كفة أخرى كما يتضح من قوله تعالى : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } ،وفي سياق آيات خلق الله العظيمة قال تعالى: { وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ } ، وصدق القائل :
وتحسب أنك جرم صغير **** وفيك انطوى العالم الأكبر
فهذه النفس البشرية تجمع المتناقضات، مع سرعة في التغيرات والتقلبات، وقد أوجز ابن القيم وصفاً رائعاً يكشف طبائع النفس البشرية حين قال :" سبحان الله في النفس كبر إبليس، وحسد قابيل، وعتو عاد، وطغيان ثمود، واستطالة فرعون، وبغي قارون، وقحة – لؤم - هامان، وهوى بلعام، وحيل أصحاب السبت، وتمرد الوليد، وجهل أبي جهل، وفيها من أخلاق البهائم حرص الغراب، وشره الكلب، ورعونة الطاووس، ودناءة الجعل، وعقوق الضب، وحقد الجمل، ووثوب الفهد، وصولة الأسد، وفسق الفأرة، وخبث الحية، وعبث القرد، وجمع النملة، ومكر الثعلب،وخفة الفراش،ونوم الضبع،غير أن الرياضة والمجاهدة تذهب ذلك" [ الفوائد ، ص98 ] .
هذه النفس في ذاتها فكيف للمرء أن يربيها ويهذبها حتى يتسنى له أن يتأهل لتربية النفوس، وإذا أضفنا إلى ذلك حساسيتها وسرعة تأثرها بما حولها رأينا الأمر يتعاظم، وإليك وصف هذه المؤثرات في مقولة أخرى لابن القيم حيث يقول:" كيف يسلم من له زوجة لا ترحمه، وولد لا يعذره، وجار لا يأمنه، وصاحب لا ينصحه، وشريك لا ينصفه، وعدو لا ينام عن معاداته، ونفس أمارة بالسوء، ودنيا متزينة، وهوى مرد، وشهوة غالبة له، وغضب قاهر، وشيطان مزين، وضعف مستولٍ عليه، فإن من تولاه الله وجذبه إليه انقهرت له هذه كلها، وإن تخلى عنه إلى نفسه اجتمعت عليه فكانت الهلكة " [ الفوائد ص63 ] .
واليوم ونحن في عصر العولمة والقرية الكونية أضف إلى ما سبق ما تبثه الفضائيات ومواقع الإنترنت من المؤثرات في الأفكار والسلوكيات، مع ما في العالم من سعار الشهوات، وغزو الثقافات، وشذوذ الانحرافات الخلقية، وشطط الشطحات الفكرية، ومع ذلك فالتربية والتهذيب الفكري والروحي والسلوكي هي سفينة النجاح، ومفتاح الصلاح، لأن تغييرها الإيجابي مؤذن بالتغيير العام :{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} إنها الحصن الحصين، والأساس المتين، ولابد أن يعرف قدرها، وأن تعطى حقها، إنها ليست مهمة محدودة بل رسالة مجتمع وواجب أمة، إنها مهمة منوطة بالآباء والأمهات، وواجبة على المعلمين والمعلمات، ولازمة للدعاة والداعيات، ولها أسس علمية، ومهارات نفسية، وخبرات تجريبية، ينبغي العناية بها وتحصيلها، ويلزم على الجميع أن يقتنعوا ويوقنوا أن التربية حجر الزاوية في إعداد الفرد القوي، الراشد في فكره، المتزن في سلوكه، المتميز في خلقه، والفرد أساس بناء الأسرة الصالحة وتربية الذرية الطيبة، ومن ثم وجود المجتمع الفاضل، والأمة الراشدة ، هذه هي التربية من لها ؟!.
د. علي بن عمر بادحدح
منقول
دمتم سالمين